فن

الجد الذي حاز اسمه بعد وفاته — قصة قصيرة

حين يتحوّل المذنّب من جرم سماوي إلى حكاية أصل، تُروى الأرض كأنها وُجدت من نظرة، واشتعلت من شوق.

future الصورة بصناعة المؤلف عن طريق Chatgbt وهي تمثل الكندي مع المذنّب الشهير

شغلني كثيرًا أمر مذنّب هالي، وذلك لأسباب خاصة تتعلق بما كُتب عن النحس الخاص القرين به، حيث يترافق ظهوره بعدة كوارث تحدث في الأرض، ما بين الحرائق والأوبئة والحروب وانهيار الممالك والعروش. وذلك ليس إيمانًا بأن هناك شيئًا يحدث بالفعل مع ظاهرة طبيعية، ولكن بسبب السحر الذي تحويه القصة. وكان فيلسوف العرب، يعقوب بن إسحاق الكندي، من أوائل الذين سجلوا ظهوره في كتاب بديع أسماه «كتاب فيما رُصد من الأثر العظيم في سنة اثنتين وعشرين ومائتين للهجرة»؛ وهو الكتاب الذي فُقدت أجزاء كثيرة منه، ولكن حفظ المؤرخ عبد الله المقدسي بعضًا منها، فذكر فيها الكندي ظهور كوكب دائري متوهج، يشبه القمر، له ذؤابة كبيرة، تنتقل من الشرق إلى الغرب. وقد حلل الكندي طبيعة المذنب وابتعد عن نظرية أنه جرم فلكي بعيد، وإنما جزء من غلاف الأرض الجوي، ولم يقرنه بالكوارث التي تُقال حوله أثناء وصفه العلمي الدقيق هذا.

وهو ما ظهر أيضًا في كتاب النيازك لأرسطاليس، والذي ألّفه كاتب مجهول، وذكر فيه جزءًا من رسالة الكندي في الكوكب ذي الذنب «مذنب هالي» قبل أن يعطيه العالم الإنجليزي إدموند هالي اسمه ويخرجه من ظلام الأسماء بالصفة إلى اسم بشري، حيث لا تُعرَف الأشياء في النهاية سوى باسم مكتشفها؛ كأن ذلك استمرارٌ لاحتكار آدم للأسماء في بداية الزمن المعروف. ولكن مجموعة من الباحثين المحترمين من عدة معاهد بحثية في كندا وإنجلترا، وجدوا المخطوط الأصلي لرسالة الكندي نفسها، ووجدوا أنها مأخوذة كما هي في كتاب النيازك لأرسطاليس، فخمنوا أن الكندي قد كتب هذا الكتاب بنفسه، ليعطي تفسيرًا خاصًا لما كتبه أرسطاليس قبل قرون، بعد الترجمة من اليونانية، وذلك حتى تكون نظرة عامة على المذنب، تُكمل رصده الخاص لظهوره عام ٢٢٢ هجرية، بما فيه من تكرار متعب للرقم اثنين، والذي يحمل دلالة خاصة عند بعض الطوائف المؤمنة بقوة الرقم. حيث يعد بعضهم الرقم اثنين رقمًا شيطانيًا حقيقيًا، لأنه يتعارض مع وحدة الخالق سبحانه وتعالى، لأن التوحيد يؤكد أن الله واحد لا ثانِيَ له، ولا يُقال مثلًا: إنه واحد لا رابع له، لأن نفي وجود الثاني ينفي وجود التكرار إلى ما لا نهاية، بينما الاعتراف بالرقم اثنين يعطي فسحة للتفكير في الأرقام الأخرى.

وقد قيل حينها بأن الرقم صفر نفسه هو الرقم الأكثر قداسة لأنه ينفي كل الأرقام الأخرى، فهو عدم خاص، ويمكن أن يُوصَف به الجوهر الإلهي الذي «لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤًا أحد». ولذلك فالأرقام تخص الأرض وحدها، دونًا عن باقي الكون.

ومع أنني لا أهتم هنا بتوثيق نظرية أن الأعوام المُثناة في التاريخ أعوام دمار وقلق، لأنها تواجه الواحد، أتجاوز موضوع العام نفسه إلى كتاب آخر شديد التفرد، كتبه عالم مجهول، اسمه «الرصد الخاص بعلامة الوجود». ويعتقد الباحثون الذين أثبتوا أن الكندي قد كتب كتاب النيازك ملحقًا برسالته التي ضاعت، أن هذا الكتاب الثاني، غريب المسمى، قد كتبه الكندي أيضًا في لعبة تخفٍّ غريبة، وهو يرصد فلسفة ظهور المذنب نفسه، وفقًا لتأثره بفلسفة أرسطو الخاصة بوحدة الله سبحانه وتعالى، التي تتعالى على المادة، في ضوء الأفلاطونية الحديثة.

ولأنه كان صاحب كتب كثيرة متخصصة في دراسة تأثير الأفلاك، التي اعتبرها كيانات عاقلة تسبّح لله، وهي «كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُون»، في نظرية الفلك الدائري التي لا نهاية لها، حيث إن كلمة «كُلٌّ» تبدأ بها الجملة، وتنتهي أيضًا في آخر حرفين من كلمة «فلك»، والتي يمكن أن تُقرأ من الخلف إلى الأمام والعكس. وهو ما استند عليه ليثبت أن الكون كله، والأرض التي نحيا عليها، يمكن أن نقرأ شفراتها بالطريقة نفسها. كان رائدًا في علم فك الشيفرات وكتابتها واللعب بالأحرف والأرقام. ولذلك فإن الكتاب «الرصد الخاص بعلامة الوجود»، كتبه الكندي بطريقة معقدة يمكن معها أن تُقرأ بعض الجمل بنفس الطريقة التي تنزاح إلى الخلف، مثلما يفعل مذنب هالي بالضبط، عندما يقع في القوس ثم ينزاح إلى الميزان، أو يقع في العذراء وينزاح إلى السرطان.

والكتاب الفريد، الذي وُجد في مقتنيات بعض باعة الكتب التي سُرقت في بغداد بفترة الغزو الأمريكي عام ٢٠٠٣، يذكر المذنب كجرم مرتبط بالأرض، كما ذكر الكندي في رسالته المفقودة، ويحلل ذلك بأن الأرض نفسها كانت كتلة بلا حرارة، وفقًا لبعض نظريات أرسطو، واجتهادات الكندي الفلكية، وظلت هكذا بلا نفع ولا مظهر طوال قرون سماوية — أي قرون تتعدى حسابات الزمن العادي في الأرض — حتى أراد الله بمشيئته أن يُحرّك الأفلاك لتصير الأرض أرضًا جاهزة لخليفته.

وكان ذلك عن طريق اصطدام حتمي، تنشأ معه الحركة؛ وقد استفاض الكندي في الكتاب بشرح أهمية الاصطدام، الذي هو سنة الكون، في دفع الحضارة والحياة، لأن الإنسان بطبعه يركن إلى الحياة كما هي، ولا يُغيّر أو يتغيّر سوى عندما يتم دفعه. وهو مصداقًا لقوله تعالى: ﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا يَشَآءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ ٱلْأَرْضُ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ﴾ [البقرة: ٢٥١]، وهو الدفع الكافي لإعمار الأرض.

فالحروب تُحرّك المشاعر وتوقد نار التضحية، والأنبياء وقود الشعوب لإصلاح ما فيهم، والمرض دافع إلى اكتشاف الدواء، والموت، الدافع الأكبر للإنسان من أجل تقدير الحياة وترك ما ينفع في الأرض.

وهي كلها أشياء تعود لطبيعة الأرض الأساسية، والتي احتاجت دفعًا خاصًّا بمؤثر خارجي. ويفنّد الكندي هنا تلك الوسائل استنادًا للفلسفة الأرسطية وكتابات علماء الصين في الفلك وكتابات الفقهاء الفلكيين، فيؤكد أن الله قد أراد دائمًا أن تتحقق إرادته بجنوده في الكون، وذلك حتى تتحقق عدالته كاملة. فبـ «كُن»، الكلمة المقدسة، يتحرك الدافع، ثم يتحقق الفعل «يكون»؛ حيث يصير المراد.

ولن يصلح اصطدام كوكب بكوكب الأرض لأن في ذلك نهايتها، حيث إنه دفع يؤدي لدمار شامل، وهو يناسب يوم القيامة عندما تصطدم الكواكب ببعضها البعض. لذلك فالدفع دائمًا محسوب وبه الكثير من الرحمة، وهو ما يتجلّى في قصة الخضر وموسى عليه السلام، حيث كان يدفع بهدوء لتحقيق المراد.

واصطدام نجم محترق بالأرض سيحرقها تمامًا، وهو ما ستقوم به الشمس لاحقًا عندما تنصهر الموجودات لصالح وجود رب الوجود. ولن تهتز الأرض من جرّاء نفسها، لأنها عنصر معتم بلا حركة — كما يظهر من فحوصات الصخور في بعض مواضعها ببلاد الإسلام في كازاخستان — وإنما يلزم لذلك جندي من جنود الله؛ جسد محترق، أصغر من أن يُودي بالحياة، وكافٍ لتحريك الأرض وخلق الحريق الخاص الداخلي بها الذي يدفع لظهور العناصر وتكوّن البحار ومياه الحياة وظهور الحيوان والإنسان والنبات.

وهو ما أسماه الكندي بالكواكب ذات الذؤابات أو الأذناب أو المذنبات، واعتبرها نوعًا خاصًّا من الأجساد الباردة حتمًا — وقد تم التأكيد علميًا، في زمننا، بأن المذنبات غازات مجمدة وصخور وغبار يلتهب في وجود الشمس — تسبح في الفضاء لحفظ نظام الدفع الأساسي. وعندما تقترب من نجوم كبيرة تسخن، ثم يجوز حينها اصطدامها بكواكب بعينها. وفي هذا، فقد اصطدم أحد هذه المذنبات بكوكب الأرض، وقت ظلامه القديم، فدفعها إلى الاهتزاز والاشتعال الخفيف، فظهر الوجود بعدها منبثقًا على هيئة بحار مالحة ومياه، وكان هذا إيذانًا بتحولها لكوكب مليء بالعناصر اللازمة للحياة.

فكل ما في الأرض قد استمدته من مصدر خارجي، ولذلك فإن الكوكب ذو الذؤابة هذا، سبب حقيقي لوجود الأرض كما نعرفها.

ولأن الطبيعة تحاكي الماضي دائمًا، ذكر الكندي أن هذه الحركة تشبه كثيرًا مراحل التخصيب الطبيعية التي تنتمي إلى عملية الدفع نفسها. فالحيوان المنوي، في هيئته التي تُكشف أسفل الفحص، عبارة عن كرة مثل الكوكب، خلفها ذنب مثل ذنب المذنب، يضرب البويضة التي تشبه الأرض، فيتم التخصيب. ولذلك، مع دمج النظرية الفلسفية الأدبية هذه بعلم الفلك كما كان يحدث في تلك الأزمنة، توصل الكندي إلى نظرية شفيقة ورقيقة، تضع الأرض في حيز الزوجة الشرعية للمذنب الحزين الوحيد، الذي يظهر — كما حدد من خلال السجلات — كل خمس وسبعين عامًا، يدور حولها مثل حيوان منوي، ثم يرحل بعد إلقاء نظرة.

ويحدد أن ذلك يتبعه الكثير من التغيرات في طبيعة الأرض في عام ظهور المذنب — وأحيانًا في الأعوام الثلاثة التالية — فتحصل اهتزازات وحرائق وأمراض، وهي شرور بها رحمة من الله، لأن حركة الأرض هذه ضمان بتجددها.

ولأن الكندي لم يترك شيئًا للخيال، حدّد فكرة حياة المذنب بعد اصطدامه، والتي يمكن أن تُفنيه في جسد الأرض، بأن لقطة ظهوره نفسها ما هي إلا تكرار لصورة ظهوره الأولى قبل الحياة، وأنه لم يعد موجودًا الآن، وإنما يلوح من الماضي ويتحرك، فنراه جميعًا، ووحدها الأرض تهتز شوقًا للوصال.

وهو ما ينتهي أيضًا إلى الحديث بأن كل ما نراه حولنا في صفحة السماء العليا ما هو إلا ماضٍ تمّ منذ قرون سماوية، بينما نحيا في زمن حاضرٍ انتهى في علم الله منذ البداية.

وبعيدًا عن هذه الفكرة البديعة التي لا تخلو من إرباك، صرت بعدها أكثر حبًّا للمذنب هالي الوحيد، الذي حاز اسمه بعد وفاته بملايين السنين، والذي يظهر لنا مثل جدٍّ أسطوري لقّح جدّتنا البعيدة بما يكفي لنكون.

# قصة قصيرة # أدب

هحكل  شفسلك — قصة قصيرة
العالم كما يراه أبي عبد الله الشمالي — قصة قصيرة
جغرافية الكآبة

فن